فصل: تفسير الآيات رقم (68- 69)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت الغنائم محرمة على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا مغنماً جعلوه للقربان فكانت النار تنزل من السماء فتأكله فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في أخذ الغنائم والفداء فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لولا كتاب من الله سبق‏}‏ يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم‏.‏ ثم لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحداً ممن شهد بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون وأنه لا يأخذ قوماً فعلوا بجهالة لمسكم يعني لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء قبل أن تؤمروا به عذاب عظيم قال محمد بن إسحاق‏:‏ لم يكن من المؤمنين أحد ممن حضر بدراً إلا وأحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى وسعد بن معاذ فإنه قال‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الإثخان في اقتل أحب إليّ من استبقاء الرجال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر وسعد بن معاذ»

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏}‏ يعني قد أحلت لكم الغنائم وأخذ الفداء فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً‏.‏

روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً فأحل الله الغنائم بهذه الآية لهذه الأمة وكانت قبل ذلك حراماً على جميع الأمم الماضية صح من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» ‏(‏ق‏)‏ عن ابي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ولم تحل الغنائم لأحد قبلنا ثم أحل الله لنا الغنائم وذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فأحلها لنا»‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا الله إن الله غفور رحيم‏}‏ يعني وخافوا الله أن تعودوا وإن لم تفعلوا شيئاً من قبل أنفسكم قبل أن تؤمروا به واعلموا أن الله قد غفر لكم ما أقدمتم عليه من هذا الذنب ورحمكم وقيل في قوله واتقوا الله إشارة إلى المستقبل وقوله إن الله غفور رحيم إشارة إلى الحالة الماضية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم‏}‏ نزلن في العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أحد العشرة الذين ضمنوا أن يطعموا الناس الذين خرجوا من مكة إلى بدر وكان قد خرج ومعه عشرون أوقية من ذهب ليطعم بها إذ جاءت نوبته فكانت نوبته يوم الوقعة ببدر فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا فلم يطعم شيئاً وبقيت العشرون أوقية معه فلما أسر أخذت منه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ «أما شيء خرجت لتستعين به علينا فلا أتركه لك» وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال العباس‏:‏ يا محمد تتركني أتكفف قريشا ما بقيت‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة» وقلت لها إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم يعني بنيه‏.‏ فقال العباس‏:‏ وما يدريك يا ابن أخي قال‏:‏ «أخبرني به ربي» قال العباس‏:‏ أشهد أنك لصادق وأشهد أن لا إله إلا لله وأنك عبده ورسوله لم يطلع عليه أحد إلا الله وأمر ابني أخيه عقيل ونوفل بن الحارث فأسلما فذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم ‏{‏من الأسرى‏}‏ يعني الذين أسرتموهم وأخذتم منهم الفداء ‏{‏إن يعلم الله في قلوبكم خير‏}‏ يعني إيماناً وتصديقاً ‏{‏يؤتكم خيراً مما أخذ منكم‏}‏ يعني من الفداء ‏{‏ويغفر لكم‏}‏ يعني ما سلف منكم قبل الإيمان ‏{‏والله غفور‏}‏ يعني لمن آمن وتاب من كفره ومعاصيه ‏{‏رحيم‏}‏ يعني بأهل طاعته قال العباس‏:‏ فأبدلني الله خيراً ما أخذ مني عشرين عبداً كلهم تاجر يضرب بمال كثير أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن يريدوا‏}‏ يعني الأسارى ‏{‏خيانتك‏}‏ يعني أن يكفروا بك ‏{‏فقد خانوا الله‏}‏ يعني فقد كفروا بالله ‏{‏من قبل‏}‏ وقيل معناه وإن نقضوا العهد ورجعوا إلى الكفر فقد خانوا الله بذلك ‏{‏فأمكن‏}‏ يعني فأمكن الله المؤمنين ‏{‏منهم‏}‏ ببدر حتى قتلوا منهم وأسروا منهم وهذا نهاية الإمكان وفيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه يتمكن من كل أحد يخونه أو ينقض عهده ‏{‏والله عليم‏}‏ يعني بما في بواطنهم وضمائرهم من إيمان وتصديق أو خيانة ونقض عهد ‏{‏حكيم‏}‏ يعني حكم بأنه يجازي كلاً بعمله الخير بالثواب والشر بالعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله‏}‏ يعني إن الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بما جاءهم به وهاجروا يعني وهجروا ديارهم وقومهم في ذات الله عز وجل وابتغاء رضوان الله وهم المهاجرون الأولون وجاهدوا يعني وبذلوا أنفسهم في سبيل الله يعني في طاعة الله وابتغاء رضوانه ‏{‏والذين آووا ونصروا‏}‏ يعني آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من أصحابه من المهاجرين وأسكنوهم منازلهم ونصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم الأنصار ‏{‏أولئك‏}‏ يعني المهاجرين والأنصار ‏{‏بعضهم أولياء بعض‏}‏ يعني في العون والنصر دون أقربائهم من الكفار وقال ابن عباس‏:‏ في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون أقربائهم وذوي أرحامهم وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيثما كانوا فصار ذلك منسوخاً بقوله تعالى وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا ولم يهاجروا‏}‏ يعني آمنوا وأقاموا بمكة ‏{‏ما لكم من ولايتهم من شيء‏}‏ يعني من الميراث ‏{‏حتى يهاجروا‏}‏ يعني إلى المدينة ‏{‏وإن استنصروكم في الدين‏}‏ يعني استنصركم الذين آمنوا ولم يهاجروا ‏{‏فعليكم النصر‏}‏ يعني فعليكم نصرهم وإعانتهم ‏{‏إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق‏}‏ أي عهد فلا تنصروهم عليهم ‏{‏والله بما تعملون بصير والذين كفروا بعضهم أولياء بعض‏}‏ يعني في النصر والمعونة وذلك أن كفار قريش كانوا معادين لليهود فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاونوا عليه جميعاً قال ابن عباس‏:‏ يعني في الميراث وهو أن يرث الكفار بعضهم من بعض ‏{‏إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به، وقال ابن جريج إلا تتعاونوا وتتناصروا وقال ابن إسحاق‏:‏ جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض ثم قال سبحانه وتعالى إلا تفعلوه وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمنين تكن فتنة في الأرض وفساد كبير فالفتنة في الأرض هي قوة الكفار والفساد الكبير هو ضعف المسلمين ‏{‏والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً‏}‏ يعني لا شك في إيمانهم ولا ريب لأنهم حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل النفس والمال في نصر الدين ‏{‏لهم مغفرة‏}‏ يعني لذنوبهم ‏{‏ورزق كريم‏}‏ يعني في الجنة‏.‏

فإن قلت ما معنى هذا التكرار‏؟‏ قلت ليس فيه تكرار لأنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى حكم ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضاً ثم ذكر في هذه الآية ما منَّ به عليهم من المغفرة والرزق الكريم وقيل إن إعادة الشيء مرة بعد أخرى تدل على مزيد الاهتمام به فلما ذكرهم أولاً ثم أعاد ذكرهم ثانياً دل ذلك على تعظيم شأنهم وعلو درجاتهم وهذا هو الشرف العظيم لأنه تعالى ذكر في هذه الآية من وجوه المدح ثلاث أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ قوله أولئك هم المؤنون حقاً وهذا يفيد الحصر وقوله سبحانه وتعالى حقاً يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين في طريق الدين وتحقيق هذا القول أن من فارق أهله وداره التي نشأ فيها وبذل النفس ولمال كان مؤمناً حقاً‏.‏

النوع الثاني‏:‏ قوله سبحانه وتعالى لهم مغفرة وتنكير لفظ المغفرة يدل على أن لهم مغفرة وأي مغفرة لا ينالها غيرهم والمعنى لهم مغفرة تامة كاملة ساترة لجميع ذنوبهم‏.‏

النوع الثالث‏:‏ قوله سبحانه وتعالى ورزق كريم فكل شيء شرف وعظم في بابه قيل له كريم والمعنى أن لهم في الجنة رزقاً لا تلحقهم فيه غضاضة ولا تعب‏.‏

وقيل‏:‏ إن المهاجرين كانوا على طبقات فمنهم من هاجر أولاً إلى المدينة وهم المهاجرون الأولون ومنهم من هاجر إلى أرض الحبشة ثم هاجر إلى المدينة فهم أصحاب الهجرتين ومنهم من هاجر بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة فذكر الله في الآية الأولى أصحاب الهجرة الأولى وذكر في الثانية أصحاب الهجرة الثانية، والله أعلم مبراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم‏}‏ اختلفوا في قوله من بعد فقيل من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية وقيل من نزول هذه الآية وقيل من بعد غزوة بدر والأصح أن المراد به أهل الهجرة الثانية لأنها بعد الهجرة الأولى لأن الهجرة انقطعت بعد فتح مكة لأنها صارت دار إسلام بعد الفتح ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية» أخرجاه في الصحيحين وقال الحسن الهجرة غير منقطعة‏.‏

ويجاب عن هذا بأن المراد منه الهجرة المخصوصة من مكة إلى المدينة فأما من كان من المؤمنين في بلد يخاف على إظهار دينه في كثرة الكفار وجب عليه أن يهاجر إلى بلد لا يخاف على إظهار دينه وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأولئك منكم‏}‏ يعني أنهم منكم وأنتم منهم لكن فيه دليل على أن مرتبة المهاجرين الأولين أشرف وأعظم من مرتبة المهاجرين المتأخرين بالهجرة لأن الله سبحانه وتعالى ألحق المهاجرين المتأخرين بالمهاجرين السابقين وجعلهم منهم وذلك معرض المدح والشرف ولولا أن المهاجرين الأولين أفضل وأشرف لما صح هذا الإلحاق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانوا يتوارثون بالهجرة والإخاء حتى نزلت هذه الآية وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض أي في الميراث أي فبين بهذه الآية أن سبب القرابة أقوى وأولى من سبب الهجرة والإخاء ونسخ بهذه الآية ذلك التوارث وقوله في كتاب الله يعني في حكم الله وقيل أراد به في اللوح المحفوظ وقيل أراد به القرآن وهو أن قسمة المواريث مذكورة في سورة النساء من كتاب الله وهو القرآن وتمسك أصحاب الإمام أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام‏.‏

وأجاب عنه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بأنه لما قال في كتاب الله كان معناه في حكم الله الذي بينه في سورة النساء فصارت هذه الآية مقيدة بالأحكام التي ذكرها في سورة النساء من قسمة المواريث وإعطاء أهل الفروض فروضهم وما بقي فللعصبات‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إن الله بكل شيء عليم‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بكل شيء لا تخفى عليه خافية والله أعلم بمراده وأسرار كتابه‏.‏

سورة التوبة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 2‏]‏

‏{‏بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏1‏)‏ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏براءة من الله ورسوله‏}‏ يعني هذه براءة من الله ورسوله وأصل البراءة في اللغة انقطاع العصمة يقال برئت من فلان أبرأ براءة أي انقطعت بيننا العصمة ولم يبق بيننا علقة وقيل معناها التباعد مما تكره مجاورته قال المفسرون لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم وذلك قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإما تخافن من قوم خيانة‏}‏ الآية ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمر به ونبذ إليهم عهودهم قال الزجاج‏:‏ أي قد برئ الله ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا ‏{‏إلى الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم إلا أنه هو الذي عاقدهم وأصحابه بذلك راضون فكأنهم هم عقدوا وعاهدوا‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فسيحوا في الأرض‏}‏ أي فسيروا في الأرض مقبلين ومدبرين آمنين غير خائفين أحداً من المشركين وأصل السياحة الضرب من الأرض والاتساع فيها والبعد عن مواضع العمارة قال ابن الأنباري‏:‏ قوله فسيحوا فيه مضمر أي قل لهم فسيحوا وليس هذا من باب الأمر بل المقصود منه الإباحة والإطلاق والإعلام بحصول الأمان وزوال الخوف يعني سيحوا في الأرض وأنتم آمنون من القتل والقتال ‏{‏أربعة أشهر‏}‏ يعني مدة أربعة أشهر واختلف العلماء في هذا التأجيل وفي هؤلاء الذين برئ الله ورسوله إليهم من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مجاهد‏:‏ هذا التأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر ومن كانت مدته أكثر حطه إلى أربعة أشهر ومن كان عهده بغير أجل معلوم محدود حده بأربعة أشهر ثم هو بعد ذلك حرب لله ولرسوله يقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ويرجع إلى الإيمان وقيل‏:‏ إن المقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا ويحتاطوا لأنفسهم ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا الإسلام أو القتل فيصير هذا داعياً لهم إلى الدخول في الإسلام ولئلا ينسب المسلمون إلى الغدر ونكث العهد وكان ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر وانقضاؤه إلى عشر من ربيع الآخر‏.‏

فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم وذلك خمسون يوماً قال الزهري الأشهر الأربعة شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم لأن هذه الآية نزلت في شوال والقول الأول أصوب وعليه الأكثرون‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إنما كانت الأربعة أشهر عهداً لمن كان له عهد دون الأربعة أشهر فأتم له الأربعة أشهر‏.‏

فأما من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ وقيل كان ابتداؤها في العاشر من ذي القعدة وآخرها العاشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في العاشر من ذي القعدة بسبب النسئ ثم صار في السنة المقبلة في العاشر من ذي الحجة وفيها حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «إن الزمان قد استدار» الحديث قال الحسن‏:‏ أمر الله عز وجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال من قاتله من المشركين فقال تعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ فكان لا يقاتل إلا من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم وأجلهم أربعة أشهر فلم يكن لأحد منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة ولا من لم يكن له عهد وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما‏:‏ نزلت في أهل مكة وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش ثم عدت بنو بكر على خزاعة فنالت منهم وأعانتهم قريش بالسلاح فلما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة ونقضوا عهدهم خرج عمرو بن سالم الخزاعي حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

لا هم إني ناشد محمداً *** حلف أبينا وأبيه ألأتلدا

كنت لنا أباً وكنا ولدا *** ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً أبدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا *** في فليق كالبحر يجري مزبدا

أبيض مثل الشمس يسمو صعدا *** إن سيم خسفا وجهه تربدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وزعموا أن لست تنجىأحداً *** وهم أذل وأقل عددا

هم بيتونا بالحطيم هجدا *** وقتلونا ركعاً وسجدا

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لانصرت إن لم أنصركم» وتجهز إلى مكة ففتحها سنة ثمان من الهجرة فلما كانت سنة تسع أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحج فقيل له المشركون يحضرون ويطوفون بالبيت عراة فقال‏:‏ «لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك» فبعث أبا بكر في تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من سورة براءة ليقرآها على أهل الموسم ثم بعث بعده علياً على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة أن قد برئت ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من كل مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فرجع أبو بكر فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي أنزل في شأني شيء فقال‏:‏

«لا ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار وأنك معي على الحوض»‏؟‏ قال بلى‏:‏ يا رسول الله فسار أبو بكر أميراً على الحجاج وعلي بن أبي طالب يؤذن ببراءة فلما كان قبل التروية بيوم قام أبو بكر فخطب الناس وحدثهم عن مناسكهم فأقام للناس الحج والعرب في تلك السنة على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية من أمر الحج حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمر به وقرأ عليهم أول سورة براءة وقال يزيد بن تبيع سألنا علياً بأي شيء بعثت في الحجة قال بعثت بأربع لا يطوف بالبيت عريان ومن كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته ومن يكون له عهده فأجله أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ولا يجتمع المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا في حج ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن أبي هريرة أن أبا بكر بعثه في الحجة التي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع في رهط يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة قال أبو هريرة فأذن معنا في أهل منى ببراءة أن لا يحج بالبيت بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وفي رواية ويوم الحج الأكبر يوم النحر والحج الأكبر الحج وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس للعمرة الحج الأصغر قال فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك فلم يحج في العام القابل الذي حج فيه حج فيه النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر إلى المشركين ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله‏}‏ الآية‏.‏

‏(‏فصل‏)‏

قد يتوهم متوهم أن في بعث علي بن أبي طالب بقراءة أول براءة عزل أبي بكر عن الإمارة وتفضيله على أبي بكر وذلك جهل من هذا المتوهم ويدل على أن أبا بكر لم يزل أميراً على الموسم في تلك السنة أول حديث أبي هريرة المتقدم أن أبا بكر بعثه في رهط يؤذنون في الناس الحديث وفي لفظ أبو داود والنسائي قال بعثني أبو بكر فيمن يؤذن في يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان فقوله بعثني أبو بكر فيه دليل على أن أبا بكر كان هو الأمير على الناس وهو الذي أقام للناس حجهم وعلمهم مناسكهم وأجاب العلماء عن بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً ليؤذن في الناس ببراة بأن عادة العرب جرت أن لا يتولى تقرير العهد ونقضه إلا سيد القبيلة وكبيرها أو رجل من أقاربه وكان علي بن أبي طالب أقرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أبي بكر لأنه ابن عمه ومن رهطه فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذن عنه ببراءة إزاحة لهذه العلة لئلا يقولوا هذا على خلاف ما نعرفه من عادتنا في عقد العهود ونقضها وقيل لما خص أبا بكر بتوليته على الموسم خص علياً بتبليغ هذه الرسالة تطييباً لقلبه ورعاية لجانبه وقيل إنما بعث علياً في هذه الرسالة حتى يصلي خلف أبي بكر ويكون جارياً مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر أميراً على الحجاج وولاه الموسم وبعث علياً خلفه ليقرأ على الناس براءة فكان أبو بكر الإمام وعلي المؤتم وكان أبو بكر الخطيب وعلي المستمع وكان أبو بكر المتولى أمر الموسم والأمير علىلناس ولم يكن ذلك لعلي فدل ذلك على تقديم أبي بكر على علي وفضله عليه والله أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ يعني أن هذا الإمهال ليس لعجز عنكم ولكن لمصلحة ولطف بكم ليتوب تائب وقيل‏:‏ معناه فسيحوا في الأرض أربعة أشهر عالمين أنكم لا تعجزون الله بل هو يعجزكم ويأخذكم لأنكم في ملكه وقبضته وتحت قهره وسلطانه وقيل معناه إنما أمهلكم هذه المدة لأنه لا يخاف الفوت ولا يعجزه شيء ‏{‏وأن الله مخزي الكافرين‏}‏ يعين بالقتل والعذاب في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وأذان من الله ورسوله‏}‏ الأذان في اللغة الإعلام ومنه الأذان للصلاة لأنه إعلام بدخول وقتها والمعنى وإعلام صادر من الله ورسوله واصل ‏{‏إلى الناس يوم الحج الأكبر‏}‏ اختلفوا في يوم الحج الأكبر فروى عكرمة عن ابن عباس أنه يوم عرفة ويروى ذلك عن ابن عمر وابن الزبير وهو قول عطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب وعن علي بن أبي طالب قال‏:‏ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم الحج الاكبر فقال‏:‏ يوم النحر أخرجه الترمذي وقال ويروى موقوفاً عليه وهو أصح وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فيها فقال‏:‏ أي يوم هذا، فقالوا يوم النحر فقال‏:‏ هذا يوم الحج الأكبر أخرجه أبو داود ويروى ذلك عن عبد الله بن أبي أوفى والمغيرة بن شعبة وهو قول الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والسدي‏.‏

وروى ابن جريج عن مجاهد أن يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وكان سفيان الثوري يقول الحج الأكبر أيام منى كلها لأن اليوم قد يطلق ويراد به الحين والزمان كقولك يوم صفين ويوم الجمل لأن الحروب دامت في تلك الأيام ويطلق عليها يوم واحد وقال عبد الله بن الحث بن نوفل‏:‏ يوم الحج الأكبر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول ابن سيرين لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود وعيد النصارى وعيد المشركين ولم يجتمع مثل ذلك قبله ولا بعده فعظم ذلك اليوم عند المؤمنين والكفارين‏.‏ قال مجاهد‏:‏ الحج الأكبر القرآن لأنه قرن بين الحج والعمرة، وقال الزهري والشعبي وعطاء، الحج الأكبر الحج والحج الأصغر العمرة وإنما قيل لها الأصغر لنقصان أعمالها عن الحج وقيل‏:‏ سمي الحج الأكبر لموافقة حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان ذلك اليوم يوم الجمعة فودع الناس فيه وخطبهم وعلمهم مناسكهم وذكر في خطبته أن الزمان قد استدار وأبطل النسي وجميع أحكام الجاهلية‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أن الله بريء من المشركين ورسوله‏}‏ فيه حذف والتقدير وأذان من الله ورسوله بأن الله بريء من المشركين وإنما حذفت الباء لدلالة الكلام عليها وفي رفع رسوله وجوه الأول أنه رفع بالابتداء وخبره مضمر والتقدير أن الله بريء من المشركين ورسوله أيضاً بريء الثاني تقديره بريء الله ورسوله من المشركين الثالث إن الله في محل الرفع بالابتداء وبرئ خبره ورسوله عطف على المبتدأ‏.‏

فإن قلت‏:‏ لا فرق بين قوله براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتهم من المشركين وبين قوله إن الله بريء من المشركين ورسوله فما فائدة هذا التكرار قلت المقصود من الآية الأولى البراءة من العهد ومن الآية الثانية البراءة التي هي تفيض الموالاة الجارية مجرى الزجر والوعيد والذين يدل على صحة هذا الفرق أنه قال في أولها براءة من الله ورسوله إلى يعني بريء إليهم وفي الثانية بريء منهم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن تبتم‏}‏ يعني فإن رجعتم عن شرككم وكفركم ‏{‏فهو خير لكم‏}‏ يعني من الإقامة على الشرك وهذا ترغيب من الله في التوبة والإقلاع عن الشكر الموجب لدخول النار ‏{‏وإن توليتم‏}‏ يعني أعرضتم عن الإيمان والتوبة من الشرك ‏{‏فاعلموا أنكم غير معجزي الله‏}‏ فيه وعيد عظيم وإعلام لهم بأن الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال العذاب بهم وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبشر الذين كفروا بعذاب أليم‏}‏ يعني في الآخرة ولفظ البشارة هنا إنما ورد على سبيل الاستهزاء‏.‏ كما يقال‏:‏ تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏4‏)‏ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم من المشركين‏}‏ هذا الاستثناء راجع إلى قوله تعالى براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين يعني إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين وهم بنو ضمرة حي من كنانة أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا العهد وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم لم ينقصوكم شيئاً‏}‏ يعني من عهودهم التي عاهدتموهم عليها ‏{‏ولم يظاهروا‏}‏ يعني ولم يعاونوا ‏{‏عليكم أحداً‏}‏ يعني من عدوكم وقال صاحب الكشاف‏:‏ وجهه أن يكون مستنثى قوله تعالى فسيحوا في الأرض لأن الكلام خطاب للمسلمين ومعناه براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فقولوا لهم‏:‏ سيحوا في الأرض إلا الذين عاهدتم منهم ثم لم ينقصوكم ‏{‏فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم‏}‏ والاستثناء بمعنى الاستدراك كأنه قيل لهم بعد أن أمروا في الناكثين لكن الذين لم ينكثوا فأتموا إليهم عهدهم ولا تجروهم مجراهم ولا تجعلوا الوفي كالغادر ‏{‏إن الله يحب المقتين‏}‏ يعني أن قضية التقوى تقتضي أن لا يسوى بين القبيلتين يعني الوافي بالعهد والناكث له والغادر فيه‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏}‏ يعني فإذا انقضت الأشهر الحرم ومضت وهي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم‏.‏ وقال مجاهد ومحمد بن إسحاق‏:‏ هي شهور العهد سميت حرماً لحرمة نقض العهد فيها فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم وذلك خمسون يوماً وقيل إنما قال لها حرم لأن الله سبحانه وتعالى حرم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتعرض لهم‏.‏

فإن قلت‏:‏ على هذا القول هذه المدة وهي الخمسون يوماً بعض الأشهر الحرم والله سبحانه وتعالى قال فإذا انسلخ الأشهر الحرم‏.‏

قلت‏:‏ لما كان هذا القدر من الأشهر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع والمعنى فإذا مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم ‏{‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏}‏ يعني في الحل والحرم وهذا أمر إطلاق يعني اقتلوهم في أي وقت وأي مكان وجدتموهم ‏{‏وخذوهم‏}‏ يعني واسروهم ‏{‏واحصروهم‏}‏ أي واحبسوهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد أن تحصنوا فاحصروهم وامنعوهم من الخروج‏.‏ وقيل‏:‏ امنعوهم من دخول مكة والتصرف في بلاد الإسلام ‏{‏واقعدوا لهم كل مرصد‏}‏ يعني على كل طريق والمرصد الوضع الذي يقعد فيه للعدو من رصدت الشيء أرصده إذا ترقبته والمعنى كونوا لهم رصداً حتى تأخذوهم من أي وجه توجهوا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه اقعدوا لهم بطريق مكة حتى لا يدخلوها ‏{‏فإن تابوا‏}‏ يعني من الشرك ورجعوا إلى الإيمان ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ يعني وأتموا أركان الصلاة المفروضة ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ الواجب عليهم طيبة بها أنفسهم ‏{‏فخلوا سبيلهم‏}‏ يعني إلى الدخول إلى مكة والتصرف في بلادهم ‏{‏إن الله غفور‏}‏ يعني لمن تاب ورجع من الشرك إلى الإيمان ومن المعصية إلى الطاعة ‏{‏رحيم‏}‏ يعني بأولياءه وأهل طاعته، وقال الحسن بن الفضل‏:‏ نسخت هذه الآية كل آية فيها ذكر الإعراض عن المشركين والصبر على أذى الأعداء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏6‏)‏ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏7‏)‏ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله‏}‏ يعني وإن استأمنك يا محمد أحد من المشركين الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم ليسمع كلام الله الذي أنزل عليك وهو القرآن فأجره حتى يسمع كلام الله ويعرف ماله من الثواب إن آمن وما عليه من العقاب إن أصر على الكفر ‏{‏ثم أبلغه مأمنه‏}‏ يعني إن لم يسلم أبلغه إلى الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه وإن قاتلك بعد ذلك وقدرت عليه فاقتله ‏{‏ذلك بأنهم قوم لا يعلمون‏}‏ أي لا يعلمون دين الله وتوحيده فهم يحتاجون إلى سماع كلام الله عز وجل، قال الحسن‏:‏ هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة ‏{‏كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله‏}‏ هذا على وجه التعجيب ومعناه الجحد أي لا يكون لهم عهد عند الله ولا عند رسوله وهم يغدرون وينقضون العهد ثم استثنى فقال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم قريش‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وقال السدي محمد بن عباد ومحمد بن إسحاق هم بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو الديل قبائل من بني بكر كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبة، وقال مجاهد‏:‏ هم أهل العهد من خزاعة ‏{‏فما استقاموا لكم‏}‏ يعني على العهد ‏{‏فاستقيموا لهم‏}‏ يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا ونقضوا العهد وأعانوا بني بكر على خزاعة فضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم إما أن يسلموا وإما أن يلحقوا بأي بلاد شاؤوا فأسلموا بعد الأربعة الأشهر والصواب من ذلك قول من قال إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمة وبنو مدلج من ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض وهم بنو ضمرة وإنما كان الصواب هذا القول لأن هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وذلك قبل فتح مكة لأن بعد الفتح كيف يقول لشيء قد مضى فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم وإنما هم الذين قال الله عز وجل فيهم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً كما نقصكم قريش ولم يظاهروا عليكم أحداً كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة وهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المتقين‏}‏ يعني أنه سبحانه وتعالى يحب الذين يوفون بالعهد إذا عاهدوا ويتقون نقضه ‏{‏كيف وإن يظهروا عليكم‏}‏ قبل هذا مردود على الآية الأولى تقديره كيف يكون لهم عهد وإن يظهروا عليكم ‏{‏لا يرقبوا فيكم إلاًّ ولا ذمة‏}‏ قال الأخفش معناه، كيف لا تقتلونهم وهم إن يظهروا عليكم أي يظهروا بكم ويغلبوكم ويعلو عليكم لا يرقبوا أي لا يحفظوا‏.‏

وقيل‏:‏ معناه لا ينتظروا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه لا يراعوا فيّكم إلاًّ‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني قرابة‏.‏ وقيل‏:‏ رحماً وهذا معنى قول ابن عباس أيضاً‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الإل الحلف‏.‏ وقال السدي‏:‏ هو العهد وكذلك الذمة وإنما كرر للتأكيد أو لاختلاف اللفظين‏:‏ وقال أبو مجلز ومجاهد‏:‏ الإل هو الله عز وجل ومن قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع كلام مسيلمة الكذاب إن هذا الكلام لم يخرج من إل يعني من الله وعلى هذا القول يكون معنى الآية لا يرقبون الله فيكم ولا يحفظون لا يراعونه ‏{‏ولا ذمة‏}‏ يعني ولا يحفظون عهداً ‏{‏يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم‏}‏ يعني يطيعونكم بألسنتهم بخلاف ما في قلوبهم ‏{‏وأكثرهم فاسقون‏}‏ فإن قلت إن الموصوفين بهذه الصفة كفار والكفر أخبث وأقبح من الفسق فكيف وصفهم بالفسق في معرض الذم وما الفائدة في قوله وأكثرهم فاسقون مع أن الكفار كلهم فاسقون‏.‏

قلت‏:‏ قد يكون الكافر عدلاً في دينه وقد يكون فاسقاً خبيث الفسق في دينه فالمراد بوصفهم بكونهم فاسقين أنهم نقضوا العهد وبالغوا في العداوة فوصفهم بكونهم فاسقين مع كفرهم فيكون أبلغ في الذم وإنما قال أكثرهم ولم يقل كلهم فاسقون لأن منهم من وفى بالعهد ولم ينقضه وأكثرهم نقضوا العهد فلهذا قال سبحانه وتعالى وأكثرهم فاسقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 11‏]‏

‏{‏اشْتَرَوْا بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏9‏)‏ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ‏(‏10‏)‏ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً‏}‏ يعني استبدلوا بآيات القرآن والإيمان بها عرضا قليلاً من متاع الدنيا وذلك أنهم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب أكلة أطعمهم إياها أبو سفيان بن حرب فذمهم الله بذلك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أطعم أبو سفيان حلفاءه وترك حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏فصدوا عن سبيله‏}‏ يعني منعوا الناس عن الدخول في دين الله قال ابن عباس‏:‏ وذلك أن أهل الطائف أمدوهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏إنهم ساء ما كانوا يعلمون‏}‏ يعني من الشرك ونقضهم العهد ومنعهم الناس عن الدخول في دين الإسلام ‏{‏لا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمة‏}‏ يعني أن هؤلاء المشركين لا يراعون في مؤمن عهداً ولا ذمة إذا قدروا عليه قتلوه فلا تبقوا أنتم عليهم كما لم يبقوا عليكم إذا ظهروا عليكم ‏{‏وأولئك هم المعتدون‏}‏ يعني في نقض العهد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فإن تابوا‏}‏ يعني فإن رجعوا عن الشرك إلى الإيمان وعن نقض العهد إلى الوفاء به ‏{‏وأقاموا الصلاة‏}‏ يعني المفروضة عليهم بجميع حدودها وأركانها ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ يعني وبذلوا الزكاة المفروضة عليهم طيبة بها أنفسهم ‏{‏فإخوانكم في الدين‏}‏ يعني إذا فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم مالكم وعليهم ما عليكم ‏{‏ونفصل الآيات لقوم يعلمون‏}‏ يعني ونبين حجج أدلتنا ونوضح بيان آياتنا لمن يعلم ذلك ويفهمه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة وقال ابن مسعود‏:‏ أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكِّ فلا صلاة له‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ افترضت الصلاة والزكاة جميعاً لم يفرق بينهما وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة‏.‏ وقال‏:‏ يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه يعني بذلك ما ذكره أبو بكر في حق منع الزكاة وهو قوله‏.‏ والله لا أفرق بين شيئين جمع الله بينهما يعني الصلاة والزكاة ‏(‏ق‏)‏ يعني أبي هريرة قال لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر بن الخطاب لأبي بكر‏:‏ كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل» فقال أبو بكر‏:‏ والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها‏.‏ وفي رواية، عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها، فقال عمر‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق‏.‏ عن أنس قال‏.‏

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وإن نكثوا أيمانهم‏}‏ يعني وإن نقضوا عهودهم ‏{‏من بعد عهدهم‏}‏ يعني من بعد ما عاهدوكم عليه أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحداً من أعدائكم ‏{‏وطعنوا في دينكم‏}‏ يعني وعابوا دينكم الذي أنتم عليه وقدحوا فيه وثلبوه‏.‏

وفي هذا دليل على ان الذمي إذا طعن في دين الإسلام وعابه ظاهراً لا يبقى له عهد والمراد بهؤلاء الذين نقضوا العهد كفار قريش وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أئمة الكفر‏}‏ يعني رؤوس المشركين وقادتهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وسهيل بن عمرو وأبي جهل وابنه عكرمة وسائر رؤساء قريش وهم الذين نقضوا عهدهم وهموا بإخراج الرسول وقيل أراد جميع الكفار وإنما ذكر الأئمة لأنهم الرؤساء والقادة ففي قتالهم قتال الأتباع، وقال مجاهد‏:‏ هم فارس والروم وقال حذيفة بن اليمان‏:‏ ما قوتل أهل هذه الآية بعد ولم يأت أهلها ولعل حذيفة أراد بذلك الذين يظهرون مع الدجال من اليهود فإنهم إئمة الكفر في ذلك الزمان والله أعلم بمراده‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إنهم لا أيمان لهم‏}‏ جمع يمين أي لا عهد لهم وقيل معناه إنهم لا وفاء لهم بالعهود وقرئ لا إيمان لهم بكسر الهمزة ومعناه لا دين لهم ولا تصديق وقيل هو من الأمان أي اقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تؤمنوهم ‏{‏لعلهم ينتهون‏}‏ أي لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم ويرجعواعن الكفر إلى الإيمان ثم حض المؤمنين على جهاد الكفار وبين السبب في ذلك فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم‏}‏ يعني نقضوا عهودهم وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة ‏{‏وهموا بإخراج الرسول‏}‏ يعني من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة ‏{‏وهم بدؤوكم‏}‏ يعني بالقتال ‏{‏أول مرة‏}‏ يعني يوم بدر وذلك أنهم قالوا لا ننصرف حتى نستأصل محمداً وأصحابه وقيل أراد به أنهم بدءوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏أتخشونهم‏}‏ يعني أتخافوهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم ‏{‏فالله أحق أن تخشوه‏}‏ يعني في ترك القتال ‏{‏إن كنتم مؤمنين‏}‏ يعني إن كنتم مصدقين بوعد الله ووعيده‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 17‏]‏

‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم‏}‏ يريد بالتعذيب القتل يعني يقتلهم الله بأيديكم‏.‏

فإن قلت‏:‏ كيف الجمع بين قوله يعذبهم الله بأيديكم وبين قوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏؟‏ قلت‏:‏ المراد بقوله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم عذاب الاستئصال يعني وما كان ليستأصلهم بالعذاب جميعاً وأنت فيهم والمراد بقوله‏:‏ قاتلوهم، يعني الذين نقضوا العهد وبدءوا بالقتال فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقتال من قاتلهم أو نقض عهدهم‏.‏

والفرق بين العذابين، أن عذاب الاستئصال يتعدى إلى المذنب وغير المذنب وإلى المخالف والموافق، وعذاب القتل لا يتعدى إلا إلى المذنب المخالف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويخزهم‏}‏ يعني ويذلهم بالقهر والأسر وينزل بهم الذل والهوان ‏{‏وينصركم عليهم‏}‏ يعني بأن يظفركم بهم ‏{‏ويشف صدور قوم مؤمنين‏}‏ يعني ويبرئ داء قلوبهم مما كانوا ينالونه من الأذى منهم ومن المعلوم أن من طال تأذيه من خصمه ثم مكنه الله منه فإنه يفرح بذلك ويعظم سروره ويصير ذلك سبباً لقوة اليقين وثبات العزيمة‏.‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعانت قريش بني بكر على خزاعة حتى قتلوا منهم ثم شفى الله صدور خزاعة من بني بكر حتى أخذوا ثأرهم منهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ‏{‏ويذهب غيظ قلوبهم‏}‏ يعني ويذهب وجد قلوبهم بما نالوه من بني بكر‏.‏

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة‏:‏ «ارفعوا السيف إلا خزاعة من بني بكر إلى العصر» ذكره البغوي بغير سند‏.‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويتوب الله على من يشاء‏}‏ هذا كلام مستأنف ليس له تعلق بالأول والمعنى ويهدي الله من يشاء إلى الإسلام فيمن عليه بالتوبة من الشرك والكفر ويهديه إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم منَّ الله عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا ‏{‏والله عليم‏}‏ يعني بسرائر عباده ومن سبقت له العناية الأزلية بالسعادة فيتوب عليه ويهديه إلى الإسلام ‏{‏حكيم‏}‏ يعني في جميع أفعاله قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تتركوا‏}‏ هذا من الاستفهام المعترض في وسط الكلام ولذلك أدخلت فيه أم لتفرق بينه وبين الاستفهام المبتدأ والمعنى أظننتم أيها المؤمنون أن تتركوا فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من الكاذب ‏{‏ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم‏}‏ أراد بالعلم‏:‏ المعلوم، لأن وجود الشيء يلزمه معلوم الوجود عند الله لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده‏.‏ قاله الإمام فخر الدين الرازي‏:‏ ونقل الواحدي عن الزجاج أي العلم الذي يجازي عليه لأنه إنما يجازي على ما عملوا ‏{‏ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة‏}‏ قال الفراء‏:‏ الوليجة‏:‏ البطانة من المشركين يتخذونهم يفشون إليهم أسرارهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ وليجة، يعني خيانة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ خديعة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ أولياء‏.‏ يعني لا تتخذوا المشركين أولياء من دون الله ورسوله والمؤمنين‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ كل شيء أدخلته في شيء ليس منه فهو وليجة والرجل يكون في القوم وليس منهم وليجة من الولوج فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس‏.‏ وقال الراغب‏:‏ الوليجة كل ما يتخذه الإنسان معتمداً عليه وليس من قولهم فلان وليجة في القوم إذا دخل فيهم وليس منهم والمقصود من هذا نهي المؤمنين عن موالاة المشركين وإن يفشوا إليهم أسرارهم ‏{‏والله خبير بما تعملون‏}‏ يعني من موالات المشركين وإخلاص العمل لله وحده‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله‏}‏ يعني به المسجد الحرام وقرئ مساجد الله على الجمع والمراد به المسجد الحرام أيضاً وإنما ذكر بلفظ الجمع لأنه قبلة المساجد كلها وسبب نزول هذه الآية أن جماعة من رؤساء كفار قريش أسروا يوم بدر ومنهم العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيرونهم بالشرك وجعل علي بن أبي طالب يوبخ العباس بسبب قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقطيعة الرحم‏.‏ فقال العباس‏:‏ ما لكم تذكرون مساوينا وتكتمون محساننا‏؟‏ فقيل له‏:‏ وهل لكم من محاسن‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ نحن أفضل منكم نحن نعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني يعني الأسير فنزلت هذه الآية‏:‏ ما كان للمشركين أي ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله أوجب الله على المسلمين منعهم من ذلك المساجد إنما تعمر لعبادة الله تعالى وحده فمن كان كافراً بالله فليس له أن يعمر مساجد الله واختلفوا في المراد بالعمارة على قولين أحدهما أن المراد بالعمارة العمارة المعروفة من بناء المساجد وتشييدها ومرمتها عند خرابها فيمنع منه الكافر حتى لو أوصى ببناء مسجد لم تقبل وصيته والقول الثاني إن المراد بالعمارة دخول المسجد والقعود فيه فيمتنع الكافر من دخول المسجد بغير إذن مسلم حتى لو دخل بغير إذن مسلم عزر وإن دخل بإذن لم يعزر ويدل على جواز دخول الكافر المسجد بالإذن أن النبي صلى الله عليه وسلم شد ثمامة بن أثال إلى سارية من سواري المسجد وهو كافر والأولى تعظيم المساجد ومنعهم من دخولها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏شاهدين على أنفسهم بالكفر‏}‏ يعني‏:‏ لا يدخلون المساجد في حال كونهم شاهدين‏.‏ وقيل‏:‏ تقديره وهم شاهدون فلما حذفت وهم نصب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام وذلك أن كفار قريش قد نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة كلما طافوا طوفة سجدوا للأصنام فلم يزدادوا بذلك من الله إلا بعداً‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إنهم لم يقولوا نحن كفار ولكن كلامهم بالكفر شهادة عليهم بالكفر‏.‏ وقال السدي‏:‏ شهادتهم على أنفسهم بالكفر هو أن النصراني يسأل من أنت فيقول نصراني واليهودي يقول يهودي والمشرك يقول مشرك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في رواية عنه شاهدين على رسولهم بالكفر لأنه من أنفسهم ‏{‏أولئك حبطت أعمالهم‏}‏ يعني الأعمال التي عملوها في حال الكفر من أعمال البر مثل قرى الضيف وسقي الحاج وفك العاني لأنها لم تكن لله فلم يكن لها تأثير مع الكفر ‏{‏وفي النار هم خالدون‏}‏ يعني من مات منهم على كفره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ لما بين الله عز وجل أن الكافر ليس له أن يعمر مساجد الله بين في هذه الآية من هو المستحق لعمارة المساجد وهو من آمن بالله فإن الإيمان بالله شرط فيمن يعمر المسجد لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه فمن لم يكن مؤمناً بالله امتنع أن يعمر موضعاً يعبد الله فيه واليوم الآخر يعني وآمن باليوم الآخر وأنه حق كائن لأن عمارة المسجد لأجل عبادة الله وجزاء أجره إنما يكون في الآخرة فمن أنكر الآخرة لم يعبد الله ولم يعمر له مسجداً‏.‏

فإن قلت لم لم يذكر الإيمان برسول الله مع أن الإيمان به شرط في صحة الإيمان‏.‏

قلت‏:‏ إن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم داخل في الإيمان فإن من آمن بالله واليوم الآخر فقد آمن برسول الله لأن من جهته عرف الإيمان بالله واليوم الآخر لأنه هو الداعي إلى ذلك وقيل إن المشركين كانوا يقولون أن محمداً إنما ادعى النبوة طلباً للرياسة والملك فأخبر الله عز وجل أن محمداً إنما دعا إلى الإيمان بالله واليوم الآخر لا لطلب الرياسة ولملك فلذلك قال سبحانه وتعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وترك ذكر الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل‏:‏ إنه تبارك وتعالى قال بعد الإيمان بالله واليوم الآخر ‏{‏وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏ وكان ذلك ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن أقام الصلاة وآتى الزكاة فقد آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أن الاعتبار بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة في عمارة المساجد أن الإنسان إذا عمر المسجد أقام الصلاة وآتى الزكاة لأن عمارة المسجد إنما تلزم لإقامة الصلاة فيه ولا يشتغل بعمارة المسجد إلا إذا كان مؤدياً للزكاة لأن الزكاة واجبة وعمارة المسجد نافلة ولا يشتغل الإنسان بالنافلة إلا بعد إكمال الفريضة الواجبة عليه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولم يخش إلا الله‏}‏ يعني ولم يخف في الدين غير الله ولم يترك أمر الله لخشية الناس ‏{‏فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين‏}‏ وعسى من الله واجب يعني وأولئك هم المهتدون المتمسكون بطاعة الله التي تؤدي إلى الجنة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان فإن الله عز وجل يقول إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر» الآية أخرجه الترمذي‏.‏ وقال حديث حسن ‏(‏ق‏)‏ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«من غدا إلى المسجد أو راح أعد الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح النزل ما يهيأ للضيف عند نزوله بالقوم» ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن عثمان بن عفان قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «من بنى لله مسجداً يبتغي به وجه الله تعالى بنى الله له بيتاً في الجنة»

وفي رواية‏:‏ «بنى الله له في الجنة مثله» وعن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من بنى لله مسجداً صغيراً كان أو كبيراً بنى الله له بيتاً في الجنة» أخرجه الترمذي عن عمرو بن عنبسة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من بنى لله مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة»، أخرج النسائي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام‏}‏ الآية ‏(‏م‏)‏ عن النعمان بن بشير قال‏:‏ كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل‏:‏ ما أبالي أن لا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام‏.‏ قال الآخر‏:‏ الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجره عمر وقال‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله عز وجل أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر إلى آخرها‏.‏

وقيل‏:‏ قال العباس حين أسروا يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله هذه الآية وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله وإن الإيمان والجهاد مع نية خير مما هم عليه‏.‏ وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي‏:‏ نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن أبي شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه‏.‏ وقال العباس‏:‏ وأنا صاحب السقاية والقيامة عليها وقال ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله هذه الآية ‏{‏أجعلتم سقاية الحاج‏}‏ والسقاية مصدر كالرعاية والحماية وهي‏:‏ سقي الحاج وكان العباس ابن عبد المطلب بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وعمارة المسجد الحرام يعني بناؤه وتشييده ومرمته ‏{‏كمن آمن بالله واليوم الآخر‏}‏ فيه حذف تقديره كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر ‏{‏وجاهد في سبيل الله‏}‏ أي وكجهاد من جاهد في سبيل الله‏.‏ وقيل‏:‏ السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر تقديره‏:‏ أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ‏{‏لا يستوون عند الله‏}‏ يعني‏:‏ لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفره لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عملاً إلا مع الإيمان به ‏{‏والله لا يهدي القوم الظالمين‏}‏ ‏(‏خ‏)‏ عن ابن عباس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس‏:‏ يا فضل اذهب إلى أمك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال‏:‏ يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال‏:‏ اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا يعني عاتقه»

‏(‏م‏)‏

عن بكر بن عبد الله المزني قال‏:‏ كنت جالساً مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل إنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة فقال‏:‏ «أحسنتم أو أجملتم كذا فاصنعوا» فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ تمر ينقع في الماء غدوة ويشرب عشاء أو ينقع عشاء ويشرب غدوة وهذا حلال فإن غلى وحمض حرم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 23‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله‏}‏ يعني أن من كان موصوفاً بهذه الصفات يعني الإيمان والهجرة والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس كان أعظم درجة عند الله ممن افتخر بالسقاية وعمارة المسجد الحرام وإنما لم يذكر القسم المرجوح لبيان فضل القسم الراجح على الإطلاق على من سواهم والمراد بالدرجة المنزلة والرفعة عند الله في الآخرة ‏{‏وأولئك‏}‏ يعني من هذه صفتهم ‏{‏هم الفائزون‏}‏ يعني بسعادة الدنيا والآخرة ‏{‏يبشرهم ربهم‏}‏ يعني يخبرهم ربهم والشبارة الخبر السار الذي يفرح الإنسان عند سماعه وتستنير بشرة وجهه عند سماعه ذلك الخبر السار ثم ذكر الخبر الذي يبشرهم به فقال تعالى‏:‏ ‏{‏برحمة منه ورضوان‏}‏ وهذا أعظم البشارات لأن الرحمة والرضوان من الله عز وجل على العبد نهاية مقصوده ‏{‏وجنات لهم فيها نعيم مقيم‏}‏ يعني أن نعيم الجنة دائم غير منقطع أبداً ‏{‏خالدين فيها‏}‏ يعني في الجنان وفي النعيم ‏{‏أبداً‏}‏ يعني لا انقطاع له ‏{‏إن الله عنده أجر عظيم‏}‏ يعني لمن عمل بطاعته وجاهد في سبيله‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هذه الآية متصلة بما قبلها نزلت في قصة العباس وطلحة وامتناعهما من الهجرة وقال ابن عباس‏:‏ لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة فمنهم من تعلق به أهله وأولاده يقولون ننشدك الله أن لا تضيعنا فيرق لهم فيقيم عليهم ويدع الهجرة فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ نزلت في التسعة الذين ارتدعوا عن الإسلام ولحقوا بمكة فنهى الله المؤمنين عن موالاتهم وأنزل يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء يعني بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسراركم وتؤثرون المقام معهم على الهجرة‏.‏ قال بعضهم‏:‏ حمل هذه الآية على ترك الهجرة مشكل لأن هذه السورة نزلت بعد الفتح وهي من آخر القرآن نزولاً والأقرب أن يقال إن الله سبحانه وتعالى لما أمر المؤمنين بالتبري من المشركين قالوا كيف يمكن أن يقاطع الرجل أباه وأخاه وابنه فذكر الله أن مقاطعة الرجل أهله وأقاربه في الدين واجبة فالمؤمن لا يوالي الكافر وإن كان أباه وأخاه وابنه وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن استحبوا الكفر على الإيمان‏}‏ يعني إن اختاروا الكفر وأقاموا عليه وتركوا الإيمان بالله ورسوله ‏{‏ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون‏}‏ يعني ومن يختار المقام معهم على الهجرة والجهاد فقد ظلم نفسه بمخالفة أمر الله واختيار الكفار على المؤمنين ولما نزلت هذه الآية قال الذين أسلموا‏:‏ لم يهاجروا إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏قل‏}‏ أي قل يا محمد لهؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ‏{‏إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشريتكم‏}‏ وقرئ على الجمع وعشيراتكم العشيرة هم الأدنون من أهل الإنسان الذين يعاشرونه دون غيرهم ‏{‏وأموال اقترفتموها‏}‏ يعني اكتسبتموها ‏{‏وتجارة تخشون كسادها‏}‏ يعني بفراقكم لها ‏{‏ومساكن ترضونها‏}‏ يعني تستوطنوها راضين بسكناها ‏{‏أحب إليكم من الله ورسوله‏}‏ يعني أحب إليكم من الهجرة إلى الله ورسوله ‏{‏وجهاد في سبيله‏}‏ فبين الله سبحانه وتعالى أنه يجب تحمل جميع المضار في الدنيا ليبقى الدين سليماً وأخبر أنه كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية عندكم أولى من طاعة الله وطاعة رسوله من المجاهدة في سبيل الله ‏{‏فتربصوا‏}‏ أي فانتظروا ‏{‏حتى يأتي الله بأمره‏}‏ يعني بقضائه وهذا أمر تهديد وتخويف وقال مجاهد ومقاتل يعني بفتح مكة ‏{‏والله لا يهدي القوم الفاسقين‏}‏ يعني الخارجين عن طاعته، وفي هذا دليل على أنه إذا وقع تعارض بين مصالح الدين ومصالح الدنيا وجب على المسلمين ترجيح مصالح الدين على مصالح الدنيا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لقد نصركم الله‏}‏ النصر المعونة على الأعداء بإظهار المسلمين عليهم ‏{‏في مواطن كثيرة‏}‏ يعني أماكن كثيرة والمراد بها غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم وسراياه وبعوثه وكانت غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكره في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم تسع عشرة غزوة زاد بريدة في حديثه قاتل في ثمان منهم ويقال إن جميع غزواته وسراياه وبعوثه سبعون وقيل‏:‏ ثمانون وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لقد نصركم الله في مواطن كثيرة‏}‏ ‏{‏ويوم حنين‏}‏ يعني‏:‏ ونصركم الله ففي يوم حنين أيضاً فأعلم الله سبحانه وتعالى أنه هو الذين يتولى نصر المؤمنين في كل موقف وموطن ومن يتولى الله نصره فلا غالب له وحنين اسم واد قريب من الطائف بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً‏.‏ وقال عروة‏:‏ هو إلى جانب ذي المجاز وكانت قصة حنين على ما نقله الرواة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان فخرج إلى حنين لقتال هوازن ويقيف في اثني عشر ألفاً عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وألفان من الطلقاء وقال عطاء‏:‏ كانوا ستة عشر ألفاً‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ كانوا عشرة آلاف وكانوا يومئذ أكثر ما كانوا قط وكان المشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف وكان على هوازن مالك بن عوف النصري وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن رقيش لن نغلب اليوم من قلة فساء رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ووكلوا إلى كلمة الرجل‏.‏ وفي رواية‏:‏ فلم يرض الله قوله ووكلهم إلى أنفسهم‏.‏

وذكر ابن الجوزي عن سعيد بن المسيب، أن القائل لذلك أبو بكر الصديق‏.‏ وحكى ابن جرير الطبري‏:‏ أن القائل لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه بعد لأنه صلى الله عليه وسلم كان في جميع أحواله متوكلاً على لله عز وجل لا يلتفت إلى كثرة عدد ولا إلى غيره بل نظره إلى ما يأتي من عند الله عز وجل من النصر والمعونة قالوا‏:‏ فلما التقى الجمعان اقتتلوا قتالاً شديداً فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ثم تنادوا‏:‏ يا حماة السواد اذكروا الفضائح‏.‏ فتراجعوا وانكشف المسلمون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس فلما انجفل القوم هربوا ‏(‏ق‏)‏‏.‏

عن أبي إسحاق قال‏:‏ جاء رجل إلى البراء فقال‏:‏ أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ولكنه انطلق أخفاء من الناس وحسر إلى هذا الحي من هوازن وهم قوم رماة فرموهم برقش من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته فنزل ودعا واستنصر وهو يقول‏:‏ «أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب اللهم نصرك» زاد أبو خيثمة ثم وصفهم‏.‏ قال البراء‏:‏ كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذين يحاذي به يعني النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ عن أبي إسحاق قال‏:‏ قال رجل للبراء بن عازب يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤه حسراً ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح فلقوا قوماً رماة لا يكاد يسقط لهم سهم جمع هوازن وبنى نصر فرشقوهم رشقاً ما يكادون يخطئون فأقبلوا هناك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به فنزل ودعا واستنصر وقال‏:‏

«أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب»

ثم صفهم وروى شعبة عن أبي إسحاق قال‏:‏ قال البراء إن هوازن كانوا قوماً رماة ولما لقيناهم حملنا عليهم فانهزموا فأقبل المسلمون على الغنائم فاستقبلونا بالسهام فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفر‏.‏

قوله‏:‏ ولكنه انطلق اخفاء من الناس‏:‏ الإخفاء‏:‏ جمع خفيف وهم المسرعون من الناس الذين ليس لهم ما يعوقهم‏.‏ والحسر‏:‏ جمع حاسر وهو الذي لا درع عليه يقال إذا رمى القوم بأسرهم إلى جهة واحدة‏:‏ رمينا رشقاً‏.‏ والرجل من الجراد القطعة الكبيرة منه‏.‏ وقوله‏:‏ كنا إحمر البأس يعني إذا اشتد الحرب والبأس بالموحدة من تحت الشدة والخوف‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كان حول رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس وقال غيره لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ غير عمه العباس بن عبد المطلب وابن عمه أبو سفيان بن الحارث وأيمن بن أم أيمن قتل يوم حنين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا أيمن أخو أسامة بن زيد لأمه أمهما بركاة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاضنته ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن العباس بن عبد المطلب قال‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن فاثة الجذامي فلما التقى المسلمون والكفار ولي المسملون مدبرين فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يركض بغلته قبل الكفار قال العباس وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكفها إرادة أن لا تسرع وأبو سفيان آخذ بركاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أي عباس ناد أصحاب السمرة» فقال العباس، وكان رجلاً صيتاً‏:‏ فقلت بأعلى صوتي أين أصحاب السمرة‏.‏ قال‏:‏ فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا لبيك لبيك‏.‏ قال فاقتتلوا والكفار والدعوة في الأنصار يقولون‏:‏ يا معشر الأنصار يا معشر الأنصار قال‏:‏ ثم قصرت الدعوة على بني الحرث بن الخزرج‏.‏ فقالوا‏:‏ يا بني الحرث بن الخزرج يا بني الحرث بن الخزرج فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاول عليها إلى قتالهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس قال ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حصيات فرمى بهن وجوه الكفار ثم قال‏:‏ «انهزموا ورب محمد» قال‏:‏ فذهبت أنظر فإذا القتال على هيئته فيما أرى قال‏:‏ فوالله ما هو إلا أن رماهم بحصيانه فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً‏.‏

قوله حمي الوطيس، أي اشتد الحرب‏.‏ قال الخطابي‏:‏ هذه الكلمة لم تسمع قبل أن يقولها النبي صلى الله عليه وسلم من العرب وهي ما اقتضبه وأنشأه‏.‏ والوطيس في اللغة‏:‏ التنور‏.‏ وقوله‏:‏ حدهم كليلاً يعني لا يقطع شيئاً ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيناً قال‏:‏ فلما غشوا رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل عن بغلته ثم قبض قبضة من تراب الأرض ثم استقبل به وجوههم‏.‏ وقال‏:‏ «شاهدت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة»

فولوا مدبرين فهزمهم الله بذلك وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنائمهم بين المسلمين أخرجه مسلم بزيادة فيه قال سعيد بن جبير‏:‏ أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين‏.‏ وروى أن رجلاً من بني نصر يقال له شجرة قال للمؤمنين بعد القتال‏:‏ أين الخيل البالق والرجال عليهم ثياب بيض ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تلك الملائكة‏.‏ وروي أن رجلاً من المشركين قال يوم حنين لما التقينا وأصحاب محمد لم يقفوا لنا حلب شاة أن كشفناهم فبينا نحن نسوقهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلقانا عنده رجال بيض الوجوه حسان فقالوا لنا شاهت الوجوه ارجعوا‏.‏ قال‏:‏ فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها‏.‏

واختلفوا هل قاتلت الملائكة يوم حنين على قولين والصحيح إنها لم تقاتل إلا يوم بدر وإنما كانت الملائكة يوم حنين مدداً وعوناً‏.‏ وذكر البغوي أن الزهري قال‏:‏ بلغني أن شيبة بن عثمان قال استدبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وأنا أريد قتله بطلحة بن عثمان وعثمان بن طلحة وكانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إليّ وضرب في صدري وقال أعيذك بالله يا شيبة فارعدت فرائصي فنظرت إليه وهو أحب إليّ من سمعي وبصري فقلت أشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعك الله على ما في نفسي فلما هزم الله المشركين وولوا مدبرين انطلقوا إلى أوطاس وبها عيالهم وأموالهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأشعريين يقال له أبو عامر وأمره على الجيش فسار إلى أوطاس فاقتتلوا بها قوتل دريد بن الصمة وهزم الله المشركين وسبى المسلمون عيال المشركين وهرب أميرهم مالك بن عوف النصري فأتى الطائف فتحصن بها وأخذ ماله وأهله فيمن أخذ وقتل أبو عامر أمير المسلمين‏.‏ قال الزهري‏:‏ أخبرني سعيد بن المسيب أنهم أصابوا يومئذ ستة آلاف صبي ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى الطائف فحاصرهم بقية ذلك الشهر فلما دخل ذو القعدة وهو شهر حرام انصرف عنهم وأتى الجعرانة فأحرم منها عمرة وقسم بها غنائم حنين وأوطاس وتألف أناساً منهم أبو سفيان بن حرب والحارث بن هشام وسهيل بن عمرو والأقرع بن حابس فأعطاهم ‏(‏ق‏)‏‏.‏ عن أنس بن مالك أن ناساً من الأنصار قالوا يوم حنين حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي رجالاً من قريش المائة من الإبل فقالوا يغفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم قال أنس فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من قولهم فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أدم ولم يدع معهم غيرهم فلما اجتمعوا جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ حديث بلغني عنكم فقال له فقهاء الأنصار‏:‏ أما ذوو رأينا يا رسول الله لم يقولوا شيئاً وأما أناس منا حديثة أسنانهم فقالوا يغفر الله لرسوله الله يعطي قريشاً ويتركنا وسيوفنا تقطر من دمائهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم أفلا ترضون أن تذهب الناس بالأموال وترجعوا إلى رحالكم برسول الله صلى الله عليه وسلم فوالله ما تنقلبون به خير مما ينقلبون به» قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قد رضينا‏.‏ قال‏:‏ فإنكم ستجدون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوا الله ورسوله على الحوض قالوا سنصبر زاد في رواية قال أنس فلم نصبر ‏(‏ق‏)‏ عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال لما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قسم في الناس في المؤلفة قلوبهم ولم يعط الأنصار شيئاً فكأنهم وجدوا إذ لم يصبهم ما أصاب الناس فخطبهم فقال‏:‏ «يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي وعالى فأغناكم الله بي كلما قال شيئاً قالوا الله ورسوله أمن قال‏:‏ فما منعكم أن تجيبوا رسول الله كلما قال شيئاً قالوا الله ورسوله آمن قال لو شئتم قلتم جئتنا كذا وكذا أترضون أن تذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبوا بالنبي إلى رحالكم لولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار ولو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم الأنصار شعار والناس دثار» ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن رافع بن خديج قال‏:‏ أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعيينة بن حصن والأقرع بن حابس كل إنسان مائة من الإبل وأعطى عباس بن مرداس دون ذلك فقال عباس بن مرداس‏:‏

أتجعل نهبي ونهب العب *** يد بين عيينة والأقرع

فما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما *** ومن يخفض اليوم لا يرفع

قال‏:‏ فأتم رسول الله صلى الله عليه وسلم له مائة ‏(‏خ‏)‏ عن المسور ومروان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد عليهم مالهم وسبيهم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن معي من ترون وأحب الحديث إلي أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما المال وإما السبي وقد كنت استأنيت بكم»

وفي رواية‏:‏ وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد عليهم إلا إحدى الطائفتين قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال‏:‏ «أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء جاؤوا تائبين وإني قد رأيت أن أرد إليهم سبيهم فمن أحب منكم أن يطيب ذلك لهم فليفعل» فقال الناس قد طيبنا ذلك لهم يا رسول الله‏.‏ فقال لهم في ذلك‏:‏ «إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم» فرجع الناس فكلمتهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا وأذنوا فهذا الذي بلغنا من سبي هوازن وأنزل الله عز وجل في قصة حنين لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين ‏{‏إذ أعجبتكم كثرتكم‏}‏ يعني حين قلتم لن نغلب اليوم من قلة ‏{‏فلم تغن عنكم‏}‏ يعني كثرتكم ‏{‏شيئاً‏}‏ يعني أن الظفر بالعدو ليس بكثرة العدد ولكن إنما يكون بنصر الله ومعونته ‏{‏وضاقت عليكم الأرض بما رحبت‏}‏ يعني بسعتها وفضائها ‏{‏ثم وليتم مدبرين‏}‏ يعني منهزمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ثم أنزل الله سكينته‏}‏ يعني بعد الهزيمة والسكينة والطمأنينة والأمنة، وهي فعلية من السكون وذلك أن الإنسان إذا خاف رجف فؤاده فلا يزال متحركاً وإذا أمن سكن فؤاده وثبت فلما كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏على رسوله وعلى المؤمنين‏}‏ إنما كان إنزال السكينة على المؤمنين لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساكن القلب ليس عنده اضطراب كما حصل للمؤمنين من الهزيمة واضطراب في هذه الواقعة ثم من الله عليهم بإنزال السكينة عليهم حتى رجعوا إلى قتال عدوهم بعد الهزيمة ورسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت لم يفر ‏{‏وأنزل جنوداً لم تورها‏}‏ يعني الملائكة تثبيت المؤمنين وتشجيعهم وتخذيل المشركين وتجبينهم لا للقتال لأن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر ‏{‏وعذب الذين كفروا‏}‏ يعني بالأسر والقتل وسبي العيال والأموال ‏{‏وذلك جزاء الكافرين‏}‏ يعني في الدنيا ثم إذا أفضوا إلى الآخرة كان لهم عذاب أشد من ذلك العذاب وأعظم ‏{‏ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء‏}‏ يعني فيهديه إلى الإسلام كما فعل بمن بقي من هوازن حيث أسلموا وقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تائبين فمَّن عليهم وأطلق سبيهم ‏{‏والله غفور‏}‏ إن تاب ‏{‏رحيم‏}‏ بعباده‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالمشركين عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار‏.‏ وقيل‏:‏ بل أراد جميع أصناف الكفار عبدة الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى‏.‏ والنجس‏:‏ الشيء القذر من الناس وغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ النجس الشيء الخبيث وأراد بهذه النجاسة نجاسة الحكم لا نجاسة العين‏.‏ سموا نجساً على الذم لأن الفقهاء اتفقوا على طهارة أبدانهم‏.‏ وقيل‏:‏ هم أنجاس العين كالكلب والخنزير‏.‏ حتى قال الحسن بن صالح‏:‏ من مس مشركاً فليتوضأ‏.‏ ويروى هذا عن الزيدية من الشيعة والقول الأول أصح وقال قتادة سماهم‏:‏ نجساً لأنهم يجنبون فلا يغتسلون ويحدثون فلا يتوضؤون ‏{‏فلا يقربوا المسجد الحرام‏}‏ المراد‏:‏ منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد الحرام ويؤكد هذا قوله تعالى سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام أراد به الحرم لأنه أسرى به صلى الله عليه وسلم من بيت أم هانئ‏.‏ قال العلماء‏:‏ وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام أحدها‏:‏ الحرم فلا يجوز لكافر أن يدخله بحال ذميماً كان أو مستأمناً لظاهر هذه الآية وبه قال الشافعي وأحمد ومالك فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهدة حول الحرم القسم الثاني من بلاد الإسلام الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامي ونصفها حجازي‏.‏

وقيل‏:‏ كلها حجازي‏:‏ وقال ابن الكلبي‏:‏ حد الحجاز ما بين جبل طيء وطريق العراق سمي حجازاً لأنه حجز بين تهامة، ونجد‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه حجز بين نجد والسراة‏.‏ وقيل‏:‏ لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام‏.‏ قال الحربي‏:‏ وتبوك من الحجاز فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالإذن ولكن لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب فلا أترك فيها إلا مسلماً زاد في رواية لغير مسلم وأوصى فقال أخرجو المشركين من جزيرة العرب فلم يتفرغ لذلك أبو بكر وأجلاهم عمر في خلافته وأجل لمن يقدم تاجراً ثلاثاً‏.‏ عن ابن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يجتمع دينان في جزيرة العرب» أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً ‏(‏م‏)‏‏.‏

عن جابر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم» قال سعيد بن عبد العزيز‏:‏ جزيرة العرب ما بين الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر وقال غيره حد جزيرة العرب من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق في الطول ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام وعرضاً والقسم الثالث سائر بلاد الإسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بعد عامهم هذا‏}‏ يعني العام الذي حج فيه أبو بكر الصديق بالناس وفيه نادى على براءة وأن لا يحج بعد العام مشرك وهو سنة تسع من الهجرة ‏{‏وإن خفتم عيلة‏}‏ يعني فقراً وفاقة وذلك أن أهل مكة كانت معايشهم من التجارات وكان المشركون يجلبون إلى مكة الطعام ويتجرون فلما منعوا من دخول الحرم خاف أهل مكة من الفقر وضيق العيش فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل وإن خفتم عيلة ‏{‏فسوف يغنيكم الله من فضله‏}‏ قال عكرمة‏:‏ فأغناهم الله بأن أنزل المطر مدراراً وكثر خيرهم وقال مقاتل‏:‏ أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وجلبوا الميرة الكثيرة إلى مكة فكفاهم الله ما كانوا يخافون وقال الضحاك وقتادة‏:‏ عوضهم الله منها الجزية فأغناهم بها ‏{‏إن شاء‏}‏ قيل‏:‏ إنما شرط المشيئة في الغنى المطلوب ليكون الإنسان دائم التضرع والابتهال إلى الله تعالى في طلب الخيرات ودفع الآفات وأن يقطع العبد أمله من كل أحد إلا من الله عز وجل فإنه هو القادر على كل شيء وقيل إن المقصود من ذكر هذا الشرط تعليم رعاية الأدب كما في قوله تبارك وتعالى لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ‏{‏إن الله عليم‏}‏ يعني بما يصلحكم ‏{‏حكيم‏}‏ يعني أنه تعالى لا يفعل شيئاً إلا عن حكمة وصواب فمن حكمته أن منع المشركين من دخول الحرم وأوجب الجزية والذل والصغار على أهل الكتاب‏.‏